حقائق هندسية في سورة التوبة
التاريخ : 2021-01-22 (01:24 PM) ، المشاهدات : 864 ، التعليقات : 0يقول المهندس عبد الحليم هلال في كتابه (العظمة الإلهية في الإشارات الهندسية): يؤكد المولى سبحانه وتعالى حقيقة أن القرآن الكريم يحتوي على كافة المعارف من هندسة وعلوم، فيقول: «رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (البينة:٢-٣) وهناك آية تدل على الإعجاز الهندسي في القرآن الكريم؛ حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (التوبة: ٩٠١).
أنزل الله هذه الآية بمناسبة الحديث عن مسجد الضرار الذي أسسه المنافقون في المدينة بغرض إيقاع التفريق بين المؤمنين وتحقيق الضرر والفتنة. والبناء الذي أسس وإن كان مسجداً كغيره من المساجد إلا أن أساس بنائه والغرض والنية من إقامته لا يخفى منها خبث المقصد وسوء النية.
وقد جمعت الآية في تصوير فني رائع بين المعقول والمحسوس، وشبهت المعنوي المفهوم بالمادي الملموس، فمن أسس بناءه بغرض ونية النفاق والكفر، كمن وضع أساس مبناه على شفا جرف هار، والنتيجة هي الانهيار المفاجئ والسريع للجرف والمبنى معاً.
ميكانيكا التربة
وفي الآية إشارات هندسية إلى أساسات المباني وطبيعة البناء التي تحكم درجة صمود البنيان ومتانته أو تؤدي إلى انهياره وقد تضمنت عدة إشارات تمس جانباً من علم ميكانيكا التربة والأساسات، في الهندسة المدنية والإنشائية.
وبينت الآية وجهاً من أوجه الإعجاز الهندسي في القرآن الكريم يمكن استنباطه من المفاهيم والإشارات الهندسية التالية التي وردت في نص الآية.
والآية تناولت عدة عوامل ذات تأثير فعّال ومباشر في أساسات المنشآت، فكلمة (أساس) معناها في اللغة أصل كل شيء، وأساس البناء مبتدؤه.
وفي الهندسة: التأسيس والأساس هو العنصر الإنشائي الذي يستخدم لنقل الأحمال المؤثرة من البنيان إلى التربة أو الأرض.
وكلمة (عَلَى) في الآية الكريمة لها معنيان هندسيان. أحدهما يفيد أن نوع الأساس المختار هو الأساس السطحي وليس العميق، لأنه لو كانت الأساسات عميقة لكان التعبير المناسب هو (في شفا) وليس (على شفا) فعامل نوع التأسيس ملحوظ ومأخوذ في الاعتبار، وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية الكريمة حيث يكون الانهيار مؤكداً عندما يكون الأساس سطحيّاً وليس عميقاً.
فلو أن الأساس على عمق من سطح الأرض لكان التعبير المناسب هو (بداخل شفا) فعامل عمق التأسيس مأخوذ في الاعتبار، وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية حيث يكون الانهيار مؤكداً حين يكون الأساس سطحياً وعلى سطح الأرض مباشرة.
انهيار مؤكد
وكلمة (شفا) معناها في اللغة حافة، وفي الهندسة لها مدلول يفيد بأنها المنطقة التي تبدأ من حافة الجرف وحتى نقطة بدء التصدع فيه والتي يحدث عندها شكل الانهيار نتيجة ميل طبقة الجرف، فعامل بُعد التأسيس عن حافة الجرف مأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية؛ فحتى يكون الانهيار مؤكداً لابد أن يكون التأسيس داخل منطقة الشفا، لأنه لو بعد عنها فقد لا يحدث انهيار.
أما كلمة (جرف) فهي تعني البئر أو الحفرة.. وفي الهندسة: الفجوة من الأرض التي قد تنشأ بفعل السيول، وبالتالي لابد أن نأخذ في الاعتبار تأثير المياه على الأساسات، وعلى تربة التأسيس.
ولفظ (هار) في اللغة قد يأتي بمعنى مشرف على السقوط.. وفي الهندسة يأتي بمعنى التربة القابلة للانهيار، فعامل نوع تربة التأسيس مأخوذ في الاعتبار.
وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية فحتى يكون الانهيار مؤكداً لا بد أن تكون التربة ضعيفة وغير قابلة للتأسيس عليها.
وضرب المثل في الآية بأن البنيان الذي أسس بنية تقوى الله هو مسجد قباء والصلاة فيه جائزة بينما الذي أسس بنية التفريق بين المؤمنين هو مسجد الضرار ولا صلاة فيه، فكل من المبنيين مسجد ولكن الفرق يكمن في النية من تأسيس كل منهما.
مفهوم هندسي واضح
وبناء على ذلك ففي قوله: (فَانْهَارَ بِهِ) دقة في التعبير القرآني تجعل المفهوم الهندسي واضحاً ومحدداً، نحو شكل الانهيار الحادث، فهو جاء نتيجة لانهيار الجرف وما عليه من بنيان، بينما (فانهار) فقط، لا تحدد هذا المفهوم الهندسي.
وهذا التحليل الهندسي مطابق للمعنى الذي قصدته الآية الكريمة لتصوير سرعة وقوة انهيار المنافقين في نار جهنم، لأنهم اتخذوا مسجد الضرار كفراً وتفريقاً بين المؤمنين، والفاء في قوله: (فَانْهَارَ) تدل على هذه السرعة، كما دل عليها التحليل الهندسي.
وعامل تماسك التربة يؤثر تأثيراً مباشراً في قيمة إجهادات التربة، والتربة غير الصالحة للتأسيس لا تتحمل أي إجهاد وأحمال عليها؛ فعند وضع جسم ثقيل عليها، تهبط فجأة وتنهار، فيسقط الجسم، وقد أعطى لفظ (هارٍ) وضوحاً لحالة التربة، وهو عنصر أساسي للمعنى. لأن الجسم قد يستقر على حافة الجرف إذا كانت تربة الجرف متماسكة كالتربة الصخرية مثلاً.
ألفاظ متكاملة
وهكذا فإن المدلول الهندسي للفظة (جُرُفٍ) ولفظة (هَارٍ) يثبت أن الجسم يسقط بأقصى سرعة ممكنة، وبأقصى كمية حركة، وفي ذلك دلالة على قوة السقوط والانهيار.
وهكذا تتكامل الألفاظ الثلاثة في قوله تعالى: (شَفَا جُرُفٍ هَار) لتجسيد المعنى وتصويره تصويراً فنياً بشكل ملموس في الواقع.
والمفاهيم الهندسية المستوحاة من نص هذه الآية الكريمة أكسبت المشهد حركة وحيوية، فساعد الحس الهندسي على حضور الصورة ورسوخها في الذهن.
وأخيراً من هذا المفهوم الهندسي للآية يمكننا إثارة مفاهيم بحثية ودراسية، تمس الجانب التطبيقي في ميكانيكا التربة والأساسات، وهي تحديد وحساب قوى الانهيار في المنشآت، وتأثيرها على المنشآت المجاورة، والمفاهيم الهندسية الواجب وضعها في الاعتبار لتلافي حدوث هذه الانهيار.
| بواسطة:
إضافة تعليق